المادة    
من خلال ما سبق يتبين لنا أن الشرك في المحبة شرك عظيم، وأصل عبادة كل معبود هي محبته، فالذين عبدوا وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، والذين أحبوا المعبودات والمألوهات من دون الله تبارك وتعالى إنما غلوا في محبتهم تلك فعبدوهم.
فهذه المحبة إن كانت للصالحين فهي غلو، وإن كانت للأحجار وما أشبهها فتعتبر صرفاً لما لا يجوز أن تصرف له تلك المحبة، وصرفٌ لعبادة الواجب فيها أن تكون خالصة لله تبارك وتعالى، ومن صرفها لغير الله عز وجل فقد وقع في الشرك، ووقع في العدل، ووقعت التسوية، وسيندمون على ذلك يوم القيامة ويقولون: ((إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97-98] وهو العدل الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1] أي: يساوون به غيره في هذا الأمر.
والعبادات منها ما هو حق خالص لله ومنها ما هو حق للمخلوقين، فأما ما هو حق خالص لله تبارك وتعالى فهي نوع لا يشترك فيها أحد مع الله، ويحرم أن يشرك بالله فيها كما قال عز وجل في -الحديث القدسي-: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملاً أشرك معي فيه غيري؛ فهو للذي أشرك} وفي الرواية الأخرى:{تركته وشركه} هذا ما كان حقاً لله من العبادات.
وأما ما هو حق للمخلوقين من العبادات فمنها بر الوالدين، والإحسان للجار، والفقراء وما أشبه ذلك، من حقوق المسلم فهذه تدخلها المحبة، وهي من حق المسلم على المسلم، وكما يجب عليك أن تحب المؤمنين فيجب عليك أن تبغض الكافرين.
فإذاً: نجد أن المحبة تدخل في كل أنواع العبادات، وسنركز على النوع الخالص والخاص بالله تبارك وتعالى، فهذا النوع كلما كمل العبد فيه كان ذلك أرقى، وكلما اجتهد في تحقيقه كان أكمل وأعظم درجة، ولذلك فإن من أعظم الناس محبة لله تبارك وتعالى هو الذي كمل في المحبة حتى بلغ الدرجة العليا من العبودية لله عز وجل.
  1. أكمل الناس في المحبة

    وأكمل الناس محبة لله عز وجل هم الأنبياء وأفضل الأنبياء في ذلك الخليلان: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} أي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتخذ من أمته خليلاً، مع شدة محبته لـأبي بكر ولـعائشة رضي الله تعالى عنها، من أجل أن تكون خلته لله وحده، فهو خليل الرحمن، كما أن إبراهيم خليله صلوات الله وسلامه عليهما، ولذلك كانت أعمال الخليلين، وحياة الخليلين شاهدة على كمال الخُلّة التي حققاها.
    فهذا إبراهيم عليه السلام عندما ابتلاه الله بأن يترك ابنه وزوجته في صحراء مكة القاحلة، بواد غير ذي زرع، وأمر أن يذهب ويرجع إلى بلاد الشام ولا يترك معهما شيئاً وأن يوكلها إلى الله، وأيقن بذلك، وذهب وتركهما.
    ثم لما ابتلي بأكثر من ذلك؛ بأن يذبح ابنه إسماعيل حقق ذلك، فأضجعه وتله للجبين، ولولا أن الله تبارك وتعالى فداه بالذبح العظيم لذبح ابنه، لأن قلبه قد تجرد عن كل محبة تخالف محبة الله تبارك وتعالى، وأصبح خليلاً للرحمن، والخليل لا يمكن أن يخالف أمر خليله أبداً، بل يأتمر بأمره ويطيعه في كل شيء وفي كل أمر.
  2. الاتباع هو من كمال المحبة

    ولهذا ربط الله تبارك وتعالى بين المحبة والاتباع كما قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران:31] فحقيقة المحبة، أن يتبع العبد ما أنزل الله، وأن يتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يتبع ما شرع الله وما أمر به ولا يخرج عن شيء من ذلك أبداًَ، فإن تمسك بهذا ترقى به في مدارج العبودية، وهو الذي يتحقق به كمال العبودية وبالتالي كمال المحبة.
    ولذلك لما كان أعظم وأشق أنواع العبادات هو الجهاد اقترن بالمحبة؛ لأنك إن كنت تحبه فلا بد أن تجاهد في سبيله، وتضحي بالغالي والنفيس من أجله، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة:24].
    فهنا قارن الله بين المحبتين، فإما أن تكون هذه أحب أو تلك وهذا حال أكثر الناس مع الأسف الشديد محبة الأبناء والأزواج والعشيرة والأموال والمساكن والدنيا والأراضي والشركات والمؤسسات، وكل ما هو من زينة الحياة الدنيا.
    فإن كانت هذه أحب إليك من الله ورسوله وجهاد في سبيله، والجهاد: خصه الله من بين سائر العبادات لأنه أشق العبادات، وهو الغاية قال: ((وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ))[التوبة:24] فإن حدتم عنها ((فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ))[التوبة:24] وهذا وعيد من الله تبارك وتعالى، فإما أن يسلط الله عز وجل الذل على المؤمنين، كما جاء في الحديث {إذا تبايعتم بالعينة، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} وإما أن ينزل علينا عقوباته السماوية، وإما أن يعاقب من فعل ذلك بتسليط بعض خلقه عليه، فهو يعاقب كما يشاء وكيف يشاء.